الاثنين

جورجي زيدان




جورجي زيدان أديب ومؤرخ عربي مسيحي ولد في بيروت عام 1861 م. أجاد -بالإضافة للعربية- العبرية
والسريانية والفرنسية والإنجليزية. أصدر مجلة الهلال التي كان
يقوم بتحريرها بنفسه في/1892، ونشر فيها كتبه. له من الكتب كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي" و"تاريخ آداب اللغة العربية" و"تراجم مشاهير الشرق" وغيرها، بالإضافة إلى اشتهاره برواياته
التاريخية كالمملوك الشارد –أسير المتمهدي – 17 رمضان – شارل وعبد الرحمن .
توفي في 21 من يوليو 1914 م.

روايات جرجي زيدان بين التاريخ والتشويق الفني


ألف جرجي زيدان (1861- 1914 م) اثنين و عشرين رواية تاريخية ذات أبعاد اجتماعية و إنسانية وعاطفية ضمن سلسلة تاريخ الإسلام من فترة ما قبل الإسلام مرورا بمرحلة صدر الإسلام و الدولتين: الأموية و العباسية وانتهاء بالعصر الحديث. وهذه الروايات بالترتيب هي: فتاة غسان وأرمانوسة المصرية وعذراء قريش و17 رمضان وغادة كربلاء والحجاج بن يوسف وفتح الأندلس وشارل وعبد الرحمن وأبو مسلم الخراساني والعباسة أخت الرشيد والأمين والمأمون وعروس فرغانة وأحمد بن طولون وعبد الرحمـــن الناصر وفتاة القيروان وصلاح الدين الأيوبي وشجرة الدر والانقلاب العثماني وأسير المتمهدي والمملوك الشارد واستبداد المماليك وجهاد المحبين.

هذا، وتطفح روايات جرجي زيدان التاريخية بعقدتين أساسيتين: عقدة تاريخية وعقدة غرامية أو عقدة اجتماعية إنسانية في إطار صراع تاريخي سياسي وديني مذهبي إلى جانب صراع رومانسي أو اجتماعي. ويعني هذا أن روايات جرجي زيدان يتقاطع فيها جانبان: الجانب التاريخي والجانب القصصي، فالأول هو الأساس والهدف، والثاني هو عبارة عن وسيلة فنية ليس إلا.

ويراد بهذه الروايات تشويق القراء وحثهم على قراءة تاريخ الإسلام عبر فتراته المختلفة لمعرفة الماضي في علاقته بالحاضر. والغرض من هذا الجمع بين التاريخي والسردي أو المزج بين الحقيقة والخيال أو بين التاريخ و الفن هو الإفادة والمتعة أو الجمع بين الوظيفة القصصية (وظيفة الترفيه والتسلية والإمتاع)؛ لذلك أدرج الدكتور عبد المحسن طه بدر روايات جرجي زيدان ضمن الرواية التعليمية ورواية التسلية و الترفيه.

وغالبا ما كان يتشدد زيدان في نقل المعلومات التاريخية، وكان لاينتقي سوى المعلومات القائمة على الصحة واليقين، ذاكرا المراجع والمصادر حتى لو كانت شعبية أو غربية استشراقية مثلما هو الحال في رواية (شجرة الدر) حيث اعتمد على حسن المحاضرة للأسيوطي وسيرة الملوك وتاريخ ابن إياس و الهلال و تاريخ الفخري ومعجم ياقوت وتاريخ ابن جبير وتاريخ مصر الحديث لكاتب الرواية نفسه. وفي رواية (صلاح الدين الأيوبي) نجد تاريخ ابن الأثير وتاريخ التمدن الإسلامي وتاريخ المقريزي وكتاب الروضتين وابن خلكان وتاريخ الدولة السلجوقية وطبقات الأطباء وبور كهاردت (Burckhardt) وتاريخ ابن خلدون وتاريخ المقدسي ومعجم ابن ياقوت في رواية (فتاة القيروان). وهكذا تتنوع الإحالات التاريخية بين ما هو رسمي وشعبي واستشراقي وغربي.

إن الهدف من ذكر المصادر التاريخية هو خدمة التاريخ في حد ذاته وتطويعه جماليا عن طريق التوسل بالفن. إذ القصة هنا في خدمة التسلسل التاريخي وحلقات تاريخ الإسلام، على خلاف كتاب أوروبا الذين يجعلون التاريخ في خدمة الفن و السرد القصصي. و من ثم، فالتعليم هو الهدف الأول و الفن وسيلة ليس إلا. ويقول جرجي زيدان في هذا الصدد "قد رأينا بالاختبار أن نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته والاستفادة منه، وخصوصا و أننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكما على الرواية، لا هي عليه، كما فعل بعض كتبة الإفرنج ومنهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية و إنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة فيجره ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث بما يضل القراء.

و أما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ و إنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين. فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وندمج في مجالها قصة غرامية تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصبح الاعتماد على ما يجيء في الروايات من حوادث التاريخ: مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص إلى ما تقتضيه من التوسع في الوصف، مما لا تأثير له على وصف العادات والأخلاق … إن الروائي المؤرخ لا يكفيه تقرير الحقيقة التاريخية الموجودة، وإنما يوضحها و يزيدها رونقا من آداب العصر وأخلاق أهله وعاداتهم حتى يخيل للقراء أنه عاصر أبطال الرواية و عاشرهم وشهد مجالسهم ومواكبها واحتفالاتهم ، شأن المصور المتفنن في تصوير حادثة يشغل ذكرها في التاريخ سطرا أو سطرين فيشغل هو في تصويرها عاما أو عامين . فمقتل جعفر البرمكي عبر عنه المؤرخ ببعض كلمات ، أما المصور فلا يستطيع تصويره إلا إذا كان مطلعا على عادات ذلك العصر و طبائع أهله و أشكال ملابسهم وألوانها، وضروب الفرس وأشكال الأسلحة ليمثل كلا من القاتل و المقتول بقيافته و شكله و ينبغي له أن يكون عالما بانفعالات النفس و ما يبدو من آثارها على الوجه أو في حركات الجسم ، ليمثل غضب القاتل أو شراسته ، و خوف المقتول و كآبته ، غيرما تقتضيه الصناعة من تصوير مكان الواقع إن كان غرفة أو شارعا أو بادية أو حديقة و الزمان الذي وقعت فيه . و إن كان صباحا أو أصيلا أو عشاء و لكل من هذه الأحوال أشكال و ألوان لا يتم جمال الصورة إلا بإتقانها. و ذلك شأن الروائي بالنظر إلى التاريخ فهو يمثل تلك الأحوال أو يصور أشكالها و ألوانها بالألفاظ من عند نفسه، فيوشح الحادثة التاريخية بخلاصة درسه الطويل في آداب القوم وعاداتهم وأخلاقهم والتفطن لأثار العواطف في مظاهرهم، مع بيان ما يحف بتلك الحادثة المعاصرة ويطابق وضعه نظام الاجتماع و أحوال العائلة و إذا رجع المطالع إلى تحقيق الحوادث التاريخية على جمالها وجدها حقيقة ثابتة و ذلك ما توخيناه في سائر رواياتنا".

و من خلال هذه المقدمة، لا ينظر جرجي زيدان إلى التاريخ على أنه أحداث سياسية فقط، بل ينظر إليه على أنه حضارة وعادات وتقاليد وأخلاق وآداب، أي يسير على خطى الغربيين في تواريخهم حينما يركزون على كل مظاهر المجتمع ونواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية و دراسة ما هو رسمي في علاقته بما هو شعبي.

وينقسم الموضوع في روايات جرجي زيدان إلى قسمين كما قلنا سلفا: "أحدهما تاريخي مقيد بالشخصيات والحوادث والأماكن التاريخية الرئيسية والثاني غرامي خيالي توضع بين العاشقين الحوائل حتى يشرف الموضوع التاريخي على نهايته فتزول الحوائل ويلتحم شمل العاشقين". ويعني هذا أن الرواية عند جورجي زيدان تستند إلى القسم التاريخي و حوادثه الكبرى بكل شخصياتها و فضاءاتها مطبوعة بهاجس الصحة و اليقين ، و القسم الفني القصصي وحوادثه الموضوعة والخيالية مبنية على الإيهام والخلق. إذاً، هناك صدق وخيال وبالتالي، فالحدث التاريخي رئيسي والقصة ثانوية وتابعة.