الأحد

الهوية ميلان كونديرا


اسم الكتاب : الهوية
الكاتب: ميلان كونديرا
- دار ورد
- ترجمة د. انطوان حمصي


ميلان كونديرا يبقى يتقدم كواحد من أبرز كتاب السخرية السوداء ومن أفضل الروائيين القادرين على القبض على التفاصيل الصغيرة لالتقاط ما يسمى بالهشاشة- تلك الهشاشة التي تصف المشاعر الكبيرة التي تدعي الرسوخ واليقين دوماً.
في " الهوية" يقوم كونديرا على اعتماد إطار قصصي وحبكة يتطوران من خلال جملة من اللحظات المادية الملموسة التي سرعان ما تتحول إلى مجال مناسب لاندلاع تداعيات مضغوطة وخاطفة، ملفتة للانتباه وتعليقات تتطلب الكثير من الذكاء والدقة، فتشكل حالة تنتقل بين الواقع والحلم بين حالة المرارة القصوى والسخرية ويحافظ كل ذلك على مناخ روائي واقع بين الصلابة العالية والهشاشة الدنيا.تبدأ الرواية من حدث صغير غير مهم حيث يدعى جان مارك وامرأة أسمها شانتان يعيشان سوية ويحب أحدهما الآخر، إلى أن تتوجه المرأة إلى فندق في منطقة النور ماندي الفرنسية القريبة من البحر، على أن يلحق بها جان مارك وحين يصل ولا يجدها فينطلق للبحث عنها يلمح امرأة يظنها هي ثم يكتشف لدى اقترابه أنها امرأة أخرى أكبر سناً وأقل جمالاً. من هذه الحادثة الصغيرة ينبعث في داخله سؤال كبير هل الفرق بين شانتال والأخريات ضئيل إلى هذا الحد وكيف لم يستطع أن يتعرف على طيف الكائن الأغلى على قلبه والذي هو غير قابل أصلاً للمقارنة مع الآخرين.
من جهتها شانتال تقوم في ذلك الوقت بنزهة على الشاطئ وتتعرض في مقهى لتحرش من قبل شابين حيث تشعران الرجال ما عادوا يلتفتون إليها وأنها لم تعد امرأة مرغوبة من قبلهم باستثناء من تحب وهذا ما سبب حزناً وقلقاً ومن خلال هذين الحادثين الصغيرين يبدأ يساورهما الشك ويبدأ كل من جان مارك وشانتال بالنظر ى نفسه وإلى الآخر بطريقة مختلفة بغية معرفة هوية الآخر الحقيقة وهوية الأنا الحقيقية أيضاً.
شانتال وجان مارك ليسا شخصيتين سلبيتين، فجان مارك رجل هامشي بعض الشيء لكنه ذكي واسع الخيال غريب الأطوار. أما شانتال فهي شابة جميلة هشة ورقيقة تهتم بالآخرين، إذ تعمل في مركز اجتماعي لمساعدة المتعطلين عن العمل في العثور عما يخرجهم من محنتهم.
من خلال هذا الشك والقلق يحاول كل من شانتال وجان مارك في "الهوية" نسج آلية انفصالهما القاسية، فلا يعود احدهما أيضاً ينظر إلى الآخر بنظرة الحب القديمة تلك.فيتوقفان عن فهم ما توصلت إليه نفسيتهما.
ولدرء مثل هذا الوضع يبدأ جان مارك بكتابة رسائل إلى شانتال باسم مستعار هو س.د.ب أي سيرانو دوبرجوراك تماماً كما كان يفعل بطل روستان القبيح الذي راح يرسل خطابات إلى محبوبته روكسانا باسم مستعار يعبر فيها عن حبه وإعجابه بها.
بهذه الرسائل يضيف كونديرا الإثارة إلى نسيج الرواية فحين تصل الرسائل إلى شانتال تسعد بها لكنها تخبئها في نفس الوقت تحت حمالة صدرها كسر أنثوي صغير.
يعمل كونديرا هنا على جعلنا نكتشف الجسد الذي يبدوا واضحاً عنده في الرواية ذلك الجسد الآخذ بالتعري.. الجسد بآثار الزمن عليه... آثار الاحمرار – القلق حيث يصبح جسد شانتال مضاد لروحها.
إلى جانب السخرية التي يحاول إظهارها من خلال وجهي شانتال في العمل وخارجه، فلا يخفي علينا الروائي هزيمتها الجسدية، هزيمة المرأة الوحيدة التي لم تعد داخل دائرة الأغواء والشهوة وإنما ضمن عالم الاهمال والنسيان. أما جان مارك الذي أخذت الغيرة تعتصر قلبه فيشرع بمراقبتها ليشعر أنه لم يكن يعرفها، وأنها امرأة أخرى بدأ يتعرف إليها من جديد، وندخل مع كونديرا عالماً من التجسس المتبادل وعالماً من الظنون وملاحقة النوايا.
بعدها تغادر شانتال في دعوة عمل أتتها مصادفة إلى لندن فيلحق بها جان مارك ويتابع تحركاتها ثم يشك بذهابها إلى منزل رجل بريطاني عرفته من قبل وهناك تدور حفلة ماجنة ترفض شانتال المشاركة بها ويحاول جان مارك الجالس على مقعد قابل للفيلا مساعدتها.
هذه هي حبكة" الهوية" نتابعها دون أن نعرف هل نحن في حلم أم في واقع، ففي المقطع ما قبل الأخير من الرواية يقول لنا كونديرا أن كل الوقائع السابقة كانت تدور في حلم شانتال وحين يستيقظ البطلان ويكف الكاتب عن الاختباء ملغياً الحاجز الذي أقامه بينه وبين بطليه، فلا يعود يتحدث بصيغة الغائب كما هو على امتداد الرواية، بل بصيغة المتكلم فيقول:" أنا أتساءل من الذي حلم من تخيلها هو... هي الأثنان معاً...
وأين هي تلك اللحظة التي تحول فيها الواقع إلى تخييل الواقع إلى حلم يقظة؟".
لكن كونديرا لا يقدم أية إجابات ولا يريد ذلك فهو يريدنا كقراء أن نفكر بهذه العبارات المتنقلة بهواجس ولحظات ومشاعر تطاول ما هو وجودي، فلا تبقى الحبكة القصصية والتنامي الدرامي وحدهما ما يميزان كتابة كونديرا بل مسعاه لالتقاط وجوه الهوية التي تتصف باللا انتباه. حيث أن الهوية هنا ليست تلك التهويمات الإيديولوجية المعروفة فلا تمر كلمة الهوية أكثر من مرة. وذلك في المقطع الذي يتحدث فيه عن صديقه.
بل يحيل إلى تلك الكلمة كل ما يخص الوجود والحياة حيث يؤكدان موت الحب هو موت موت الإنسان الذي يهرب بهذا الحب من قلق الحياة واضطرابها.
بعد قراءة الهوية تشعر برعب وقد نما داخلنا تشاؤم مقلق..حزن متضخم وقاس من جراء تزعزع مشاعر كبيرة تسبب في حالات كثيرة توازننا فنصبح هشين نكسر ونهزم بنسمة هواء. كل ذلك من خلال رصد لذلك الجسد الفسيفسائي الممزق وتنسم رائحة أطياف الأشجان من نافذة الروح الداخلية المفتوحة.


من هنا لتنزيل الكتاب



=