الاثنين

باحثة البادية



باحثه الباديه: دراسه نقديه

" ولما توفيت "باحثة البادية" ملك حفني ناصيف، وأبّنتها بمقال في جريدة المحروسة كان الناس يقرأونه والفقيدة العزيزة محمولة على الأعناق، فنقلها الدكتور يعقوب صروف إلى المقتطف، وطلب مني أن أكتب للمقتطف بحثاً عما كانت تنادي به الفقيدة الراحلة. فكتبت عدة مقالات جمعتها في كتاب "باحثة البادية"..

من هي باحثة البادية تلك التي تكتب عنها مي:

" إن في بعض الناس قوة لا تكفيها النعوت. ليست هي الذكاء وإن كان الذكاء بدونها بلادة، ولا الجمال وإن عدم الجمال ميزة التأثير بفقدانها. ولا هي توازن تراكيب الجسم وتناسب الأعضاء ونضارة الصحة وكل هذه تافهة إذا حرمت منها لأنها العنصر الخفي المحيي الذي ينفعل به الأقوام ويخضعون لسطوته مريدين كانوا أم غير مريدين. لقد دعي ذلك العنصر مغنطيساً، وكهرباء، وجاذبية، ولطفاً، وخفة دم، وخفة روح، و"نفاشة" ، ولكن جميع هذه المعاني ليست إلا أجزاء منه وتشترك معها في تأليفه معانٍ أخرى شتى.

إنها لقوة عجيبة قد تحوّل ما هو في عرف البشر قباحة إلى جمال فتّان:فهي بروق الذكاء المتألقة في العيون، وسيال اللطف المتدفق في الابتسام، وأغنية الروح المتماوجة في نغمة الصوت. هي سحر الحركة. وهي وسم الامتياز، وهي جلال الهيبة، وهي قداسة السكوت. هي المقياس السري الذي يكيف الاشارة ويوقع الخطى، والشرارة التي تضرم نار الفكر، والنور الذي يجعل كثافة المادة شفافة. هي اليد العلوية التي إذا حلت لسان المتكلم كان بليغاً وإذا أشارت إلى الناظر بدت نظرته عميقة، وإذا قادت قلم الكاتب كانت كلماته شائقة فعّالة يبقى صداها داوياً في أعماق النفوس.
وكل من عرف باحثة البادية شخصيا أي معرفة الجسد أو معنوياً أي معرفة القلم، علم أنها كانت حائزة لهذه القوة التي حارت في تعريفها الأسماء...

... إن مؤلفة "النسائيات" قانعة بالغرفة التي تسكنها، والحي الذي تسير بين منازله، والبيئة التي هي جزء منها. وحيثما تعثر على ما لا يرضيها – وما أقل ما يرضيها ! – تضرب بمؤلفات الباحثين وشروح العلماء عرض الحائط غير معتمدة إلا على ما تختبره بالمشاهدة. وسرعان ما تقابل بين ما تراه عند الغير وما يشبهه مما طرأ عليها أو قد يكون مهدداً حياتها، هي عين ترى ما هو كائن فتذكر ما يجب أن يكون. على أن هذه العين لا تنسى لحظة أنها عين امرأة، فما تكاد تلمح خيال اللوعة حتى يحترق القلب منها لهفاً وتذوب ذراته وجعاً.


... نعم إنها التاعت وتألمت . أقول ذلك ون لم أرها يوماً إلا بين مظاهر السعادة والهناءة. بل لم أقابلها مرة إلا وهي صبيحة الوجه، طليقة المحيا، براقة العينين، والبسمة تلعب على شفتيها. لكن هذه كلها ستائر تنسدل على حركات الحياة الحقيقية حاجبة عن النواظر معانيها العميقة. وهل في وسع من ذاق مرارة الفكر وحلاوته أن يكون سعيداً بالمعنى الذي يقصده البشر؟ وإذا فرضنا أنه حاز السعادة على ذلك القياس المألوف أتكفي هذه السعادة الاصطلاحية لحمايته من لهيب الألم النفسي؟

ولكن لا ننقمن على الألم فهو مغذي الذكاء ومهذب الشعور ومنبه الادارك إلى معان جمّة وأساليب فكرية كثيرة. إنما صاحب العواطف القوية شقيّ إذا ما ذكرنا أن هذه العواطف تعذبه في كل حين وتظلّ هامسة له بالشكوى حتى في أعذب ما يناله من لحظات السعادة النادرة. لكن هذا العذاب بعينه هو ممزق غشاء الجهل والأنانية عن بصر فريسته، وهو مستنزل الوحي على فؤاده نهشته براثنه حتى أدمته. هو مفجر ينابيع النهي. هو يعطي القلم قوة تبتدع من الكلام سيوفاً وبروقاً، ويحبو اللسان بلاغة تمتلك القلب لأنها تخابره مباشرة بلا وسيط. وماذا عسى ينفع الحديث إن لم يكن مصدره القلب؟ وما هي قيمة الإصلاح إن لم يكن ناشئاً عن إدراك تكوّن ليس في العقل وحده بل في العواطف المسحوقة وما تنبّه إليه من احتياج كثير؟ ونظرة الكاتب إن لم يطل فيها خيال القلب المتوجّع ليس إلا بالنظرة الباردة القاصرة التي لا تنفذ إلى ما وراء قشرة الظواهر ويظلّ باب النفس، باب الحقيقة، أمامها مغلقاً مجهولاً!

إن مزاج باحثة البادية العصبي الصفراوي، وجنسها النسائي، وقوة عواطفها وحدّة ذكائها – كل ذلك كان مشتركا في تكوين طبيعتها السريعة الانفعال، وواضعاً فيها قابلية شديدة للألم واستعداداً كبيراً لمشاهدة الأشياء والحوادث من وراء غشاء قاتم. اقرأ كل ما كتبته تجد أنيناً متواصلاً يخترقه من أوله إلى آخره. وذلك الأنين الذي يكاد يكون ركزاً ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيراً وعويلاً."

هذا بعض ما كتبته مي عن باحثة البادية!...

"... وغداً عندما يطرح الزمن ما يكتبه الكتاب وينظمه الشعراء في هوة النسيان، يظل كتاب باحثة البادية موضع اعجاب الباحثين والمفكرين المستيقظين. أنت يا مي صوت صارخ في البرية، وأنت صوت رباني، الأصوات الربانية تبقى متموجة في الغلاف الأبدي حتى نهاية الزمن".

إنه جبران يعلق على كتابها باحثة البادية.. ولعله أول من أعطى رأيه في كتاب مي.

كانت مي تكتب عن باحثة البادية وكأنها تكتب عن نفسها.. "هي تكتب كما تتكلم بنظرتها البسيطة النسائية فتنتقد وتنكت وتتألم وتشفق، وترتقي منبراً خيالياً تخطب بالاصلاح ثم تضحك وتبكي وتأتي بجميع الأقوال والحركات التي تجعل المرأة محبوبة كالطفل، بليغة كالشاعر، خلابة كالسحار..."

وفي مقال لفؤاد افرام البستاني نشره عن كتاب مي تحت عنوان "باحثة الباحثة، أثر المرأة في النقد الأدبي الحديث" يبدي أن مي في كتابها هذا قد بلغت من التحليل العقلي أعمقه، ومن تصوير العواطف أقصاه، كاشفة لنا بفضل الشخصية المركبة، نواحي من باحثة البادية لم يكن يسهل كشفها إلا لامرأة مثقفة ثقافة الرجال. وما قولنا في اطلاعها على ذلك "السلاح النسائي المحض" وهو الضحك وما يتقدمه من نظرات لطيفات المعاني، وما ينتج عنه من ارضاء الجميع دون إغضاب أحد، والتخلص من المواقف المحرجة بمهارة وبساطة هذا الضحك البلوري الرنين، الساذج المظهر، العميق الغور، الذي لو أدرك سره بشار المفتح الأذنين لاستبدل به الصمت في عبدته وصاح:

... ....
خرجت "بالضحك" عن لا ونعم.


save as - حفظ بصيغة